فصل: فصل في ذكر آيات الأحكام في السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والقول الآخر يقول: إن العبد إذا باشر السبب الموجب، أوجبه اللّه تعالى عليه، فيكون من العبد مباشرة السبب الوحيد، وكون السبب موجبا عرف بالشرع، فوجب بإيجاب الشرع، لا بغيره، وهذا بيّن.
ولعل الأظهر اندراج ذلك تحت العموم، ولا خلاف أن المباح نذره لا يوجب شيئا، لأنه لا يتوهم كونه داعيا إلى المستحسنات العقلية، ولا أن له في الوجوب أصلا يتوهم، كون هذا داخلا تحته، وهذا بيّن لا غبار عليه.
ولما حلف الصديق على ما كان فعله خيرا من تركه، قيل له: {وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى}.
فحنث الصديق عن نفسه، وكفر عن يمينه.
قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ} الآية (1):
قيل في الأنعام: إنها الإبل والبقر والغنم، وقيل يقع الانعام على هذه الأصناف الثلاثة، وعلى الظباء وبقر الوحش، ولا يدخل فيها الحافر، لأنه أحد من يعمه الوطء.
والذي يدل على تناوله للجميع، استثناؤه الصيد منها، بقوله في نسق الآية: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}.
ويدل على أن الحافر ليس داخلا في الأنعام قوله تعالى: {وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ}.
ثم عطف عليه قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ}.
فلما استأنف ذكرها وعطفها على الأنعام، دل ذلك على أنها ليست منها.
وذكر ذاكرون دقيقة فقالوا: لما قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، أذن ذلك بأن الإباحة مجازاة على الوفاء بالعقود، فإن الكفار محظور عليهم ذبح البهائم، فإن ذبح البهائم إنما عرفت إباحته بالسمع، والسمع إنما عرف بنبوته صلّى اللّه عليه وسلم، فإذا تثبت ذلك، فلا يباح ذبح البهائم للكفار، وإن كانوا أهل الكتاب، وهذا بعيد.
فإنه لو لم يكن مباحا لهم، لما جاز للمسلمين تناول ذبائحهم.
ويمكن أن يجاب عنه بأنه محرم أن يذبحوا، ولكن إذا ذبحوا على تسمية الكتاب حل للمسلم.
وبالجملة، هذا طريق المعتزلة، وعندنا لا يحرم قبل السمع شيء، ولا يحل أيضا، فإن الحكم حكم اللّه تعالى، فلا تعلق له بما تقدم على هذا الطريق، فاعلمه.
قوله تعالى: {إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ}.
يحتمل أن يكون فيما قد حصل تحريمه قبل ذلك، فالباقي على الإباحة؟
إلا ما خصه الدليل، فيكون عاما محتجا به.
ويحتمل أن يكون المراد بقوله: {إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ}: إلا ما يريد أن يحرمه، فيكون مؤذنا بورود بيان من بعد، إلا أن ذلك لا يقتضي التخصيص، ولا يتحقق فيه معنى الاستثناء، إذا لم يكن محرما في الحال.
ويحتمل أن يريد به إلا ما قد حرم عليكم مطلقا، وسيرد بيانه.
فعلى هذا يكون القدر المخصوص منه مجملا لجهالة المخصوص.
أو يجوز أن يكون الكل قد ورد دفعة واحدة، فيذكر الكلام مطلقا إلا ما سيرد تفصيله، ويسوق الكلام إلى غايته، ويكون ذلك كمطلق يعقبه خصوص، ويسوق الكلام إلى آخره.
نعم، قوله: {إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ}، لا يتناول محل الصيد، فإنه لو استثنى ذلك سقط حكم الاستثناء الثماني، وهو قوله: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ}، وصار بمثابة قوله: {إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ}، وهو تحريم الصيد على المحرم، وذلك تعسف في التأويل، ويوجب ذلك أيضا أن يكون الاستثناء من إباحة بهيمة الأنعام مقصورا على الصيد، وقد علمنا أن الميتة من بهيمة الأنعام مستثنى من الإباحة، فهذا تأويل لا وجه له.
وقوله: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ}، لا يخلو إما أن يكون مستثنى مما يليه من الاستثناء، فيصير بمنزلة قوله تعالى: {إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ} إلا محلي الصيد وأنتم حرم، فلو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الإحرام، لأنه مستثنى من المحظور، إن كان قوله تعالى: {إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ} مستثنى من الإباحة، فهذا أيضا وجه ساقط، فإن معناه:
أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد وأنتم حرم، و{إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ} سوى الصيد مما قدمناه، ويستثنى تحريمه في الثاني، وأن يكون معناه: أوفوا غير محلي الصيد، وأحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ} الآية (2): روي عن ابن عباس أنها مناسك الحج، فعلى هذا تشتمل على الصفا والمروة والبدن وغيرها.
وقيل معالم اللّه تعالى وأحكامه: شعائره، فإن شعائره مأخوذة من الأعلام، ومنه مشاعر البدن وهي الحواس، وهي أيضا المواضع التي أشعرت بالعلامات، ومنه قول القائل: شعرت به: أي علمته، لا يشعرون: أي لا يعلمون، ومنه الشاعر، لأنه شعر بفطنته بما لا يشعر به غيره، فالشعائر العلامات.
فقوله تعالى: {لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ}، اشتمل على جميع معالم دين اللّه، وهو ما أعلمنا اللّه تعالى من فرائض دينه وعلاماتها أن لا تتجاوز واحدة ولا تقصر فيما دونها، وهذا أشمل التأويلات.
والهدي: ما يتقرب به من الذبائح والصدقات، ومنه قوله صلّى اللّه عليه وسلم: «المبكر للجمعة كالمهدى بدنه..»، إلى أن قال- «كالمهدى بيضة».
فسماها هديا، فتسمية البيضة هديا- لا محمل له، إلا أنه أراد بالهدي الصدقة، ولذلك قال العلماء: إذا قال جعلت ثوبي هديا، فعليه أن يتصدق به.
إلا أن الإطلاق ينصرف إلى أحد الأصناف من الإبل والغنم.
وسوقها إلى الحرم، وذبحها فيه، وهذا شيء تلقى من عرف الشرع من قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}، أراد به الشاة.
وقد قال تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بالِغَ الْكَعْبَةِ}.
وقال تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}.
وأقله عند الفقهاء شاة، فإذا أطلق الهدي، تناول ذبح أحد هذه الأصناف الثلاثة في الحرم.
فقوله تعالى: {وَلَا الْهَدْيَ} أراد به النهي عن إحلال الهدي الذي قد جعل للذبح في الحرم، وإحلاله: استباحته لغير ما سيق له من الفدية.
وفيه دلالة على المنع من الانتفاع بالهدي بصرفه إلى جهة أخرى، ويدل على تحريم الأكل من الهدي نذرا كان أو واجبا، من إحصار أو جزاء صيد، ويمنع الأكل من هدي المتعة والقرآن، على ما هو مذهب الشافعي، وخالفه فيه أبو حنيفة.
وفيه تنبيه على أصل آخر، وهو أن الشافعي يقول:
إذا كان مطلق الهدي يتناول الأصناف الثلاثة على خلاف ما يقتضيه حق الوضع، فهو لعرف الشرع وتقييده المطلق من الهدي بالأصناف، فإذا كان كذلك فلم نجد في عرف الشرع، إلا أن لفظ الهدي تكرر في الكتاب في مواضع، فاقتضى ذلك كون الهدي صريحا في التقييد بالأصناف الثلاثة، وإن تناول من حيث اللغة ما سواه، كذلك لفظ الفراق والسراح من حيث تكررا في الكتاب والسنة، صارا صريحين في معنى الطلاق، وإن كان اللفظين محتملين لما سواه، وهذا بيّن ظاهر.
قوله تعالى: {وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ}، عنى به الأشهر الحرم ثلاثة متوالية وواحد مفرد، المفرد رجب، والمتوالية ذو القعدة وذو الحجة والمحرم.
وذلك منسوخ بجواز قتل الكفار في أي وقت كان.
وقوله: {وَلَا الْقَلائِدَ}، نهى عن استباحة الهدي وصرفه إلى جهة أخرى، ونهى عن التعرض للقلائد: وهي أن المحرمين كانوا يقلدون أنفسهم والبهائم من لحا شجر الحرم، وكان قد حرم إذ ذاك ما هذا وصفه، فنسخ ذلك في الآدمي، وقرر في البهائم على ما كان.
وإذا كان كذلك، فلا يجوز استباحته، ويجوز التصدق به، ولكن إذا فعل ذلك، فمجرد فعله لا نقول إنه حرم، ولكن لابد من النية، وليس في الآية تعرض لها.قوله: {لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ}: نسخها قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} و{فَإِنْ جاؤُكَ... فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ}.
وقوله: {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ}:
معناه أن الكفار كانوا إذا قلدوا أنفسهم قلادة من شعر منعته من الناس، وكان الكفار على هذه السنة، فأمر المسلمون أن لا يتعرضوا لهم، ولا يتعرض للكفار الذين يؤمون البيت، ثم أنزل اللّه تعالى بعد هذا:
{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا}.
وقال: {ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ}.
قوله تعالى: {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ}. الآية (2)، وهو التجارة.
{وَرِضْوانًا}: وهو الحج.
وذلك يدل على أن الذي يقصد الحج لا يلزمه الإحرام، إلا إذا أراد الحج، فإن اللّه تعالى يقول: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوانًا}، وهو قول للشافعي، ثم قال: {وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا}.
هذا إطلاق وإباحة لما كان قد حرم من قبل.
قوله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} الآية (2).
معناه: أي لا يكسبنكم شنآن قوم، أي البغض، أن تتعدوا الحق إلى الباطل، والعدل إلى الظلم.
قال صلّى اللّه عليه وسلم: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك».
وفيه دليل على أنه إنما يجوز مقابلة الظالم بما يجوز أن يكون عقوبة له وقد أذن فيه، فأما بالجنايات والمحظورات فلا يجوز معاقبته.
ذكروا أن سبب نزول الآية، أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه، كانوا بالحديبية حين صدهم المشركون عن البيت، فمرّ بهم ناس من المشركين من أهل نجد يريدون العمرة، فقالوا: إنا نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم.
فنزلت هذه الآية: {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ}.
قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} الآية (3): بيناه من قبل، وكذلك الدم، وكذلك لحم الخنزير، وما أهل لغير اللّه به، وكل ذلك شرحناه في سورة البقرة.
والمنخنقة كمثل.
والموقوذة: المضروبة بالخشب ونحوه حتى تموت، ومنه المقتول بالبندقة، كذلك فسّره ابن عمر وعدي بن حاتم قال: قلت يا رسول اللّه إني أرمي بالمعراض فأصيب فآكل.؟
فقال: «إذا رميت بالمعراض وذكرت اسم اللّه تعالى فأصاب فخرق فكل، وإن أصاب بعرضه فلا تأكل».
وعن عدي قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن صيد المعراض فقال:
«ما أصاب بحده فخرق فكل، وما أصاب بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكل».
فجعل ما أصاب بعرضه من غير جراحة موقوذة، وإن لم يكن مقدورا على ذكاته، وذلك يدل على أن شرط ذكاة الصيد الجراحة وإسالة الدم.
لا جرم قال الشافعي في قول: إن أخذ الكلب الصيد فقتله ضغطا، فإنه لا يحل ما أصاب بعرض المعراض.
قوله تعالى: {وَالْمُتَرَدِّيَةُ}: هي الساقطة من أعلى جبل فتموت.
وهذا الإشكال فيه، إن حصل ذلك بغير فعل الآدمي فهو ميتة، وما رداه الواحد منا، فلا يحل أيضا، فإنه ليس ذكاة شرعية.